أربعون عاماً قضاها الراحل «البابا شنودة الثالث» على كرسى مارمرقس الرسول، وهى مدة أكثر من كافية لمنح صاحب العباءة السوداء صفة «البابا الثائر»، الذى يسعى لعرض القضايا القبطية، والوقوف فى وجه المتطرفين من خلال كتاباته التى ناصرت الأقباط، وكانت كلماته كالسياط فى القرن الماضى، فهو الخطيب المفوه، صاحب الحضور القوى، الذى لم يغب حتى عندما اعتلى البابوية عام 1971، كما انتسب فى فترة ما قبل الرهبنة إلى الكلية الحربية، وكان عضواً فى نقابة الصحفيين، حتى قرر أن حياة الرهبنة هى طريقه الجديد، وشق حياته فى صحراء وادى النطرون ناسكاً فى مغارات دير السريان.
ولد البابا شنودة فى قرية سلام بمحافظة أسيوط لأسرة ميسورة الحال، وأطلق عليه والده اسم «نظير»، ليصبح اسمه بالميلاد نظير جيد روفائيل، فى الثالث من أغسطس عام 1923، وبعدها بعدة أيام أصيبت والدته بحمى النفاس وتوفيت.
وبسبب هذا الحادث فقد نسى والده قيده فى السجل المدنى، ما أدى لدخوله المدرسة متأخراً عن أقرانه، ثم تولى والده وأشقاؤه رعايته، وقد أثر رحيل والدته فيه، فكان يميل إلى الوحدة، عاشقاً للقراءة فى كل المجالات منها التاريخ والسياسة والأدب المصرى والعالمى، ويقول البابا شنودة بلسانه عن تلك الفترة إنه كان نهماً للقراءة، فكان يقرأ كل ما يقع تحت يديه بلا استثناء، وزاد هذا الشغف بعد التحاقه بالمدرسة، وكان أكثر الكتب تأثيراً فيه هو كتاب «قادة الفكر» للأديب طه حسين.
بدأ ظهور علاقة نظير جيد بالشعر فى عمر السادسة عشرة، وكانت الأبيات دون قواعد لأنه لم يدركها فى هذا الوقت، وكانت أولى القصائد التى كتبها لوالدته التى لم يرها، فقالها خلال إحدى عظاته التى نُشرت بتاريخ 17 مارس 1999 على قناة «مى سات» المسيحية.
فقال لها:
أحقاً كان لى أم فماتت أم أنى خُلِقت بغير أمِ
رمانى الله فى الدنيا غريباً أحلق فى فضاء مُدلَهِمِّ
وأسأل يا زمانى أين حظى بأخت أو بخالٍ أو بعمِ
وأسأل عن صديق لا أجده كأنى لست فى أهلى وقومى
وهل أقضى زمانى ثم أمضى وهذا القلب فى عدم ويتم
التحق نظير جيد عام 1943 بجامعة فؤاد الأول بمنحة مجانية لتفوقه الدراسى، لينتسب لكلية الآداب – قسم التاريخ، ليزامل نخبة أدباء مصريين مثل أنيس منصور ومراد وهبة، وكان يجمع بين دراستين، حيث انتسب إلى الكلية الإكليريكية للتعمق فى علم اللاهوت، ليجمع بين الدراسة العلمية والدينية.
واستطاع أن يكوّن صداقة قوية مع مكرم عبيد باشا، الذى كان عضواً بالكتلة الوفدية، وكان «نظير» يحاضر فى اجتماعات الحزب، حتى أطلق عليه أعضاء الحزب «شاعر الكتلة الوفدية»، وخلال فترة الخلاف بين مصطفى النحاس باشا ومكرم عبيد، ألقى قصيدة هجاء فى مصطفى النحاس قائلاً:
الشعب منك تبرم وللإله تظلم
وأنت فى الحكم تلهو وفى الملأ تتحكم
تلهو وتظهر نبلاً حتى انبرى لك مكرم
وكان لهذه القصيدة الأثر الأكبر فى تقوية العلاقة بينه وبين مكرم عبيد، حتى قام باحتضانه وتحيته أمام الجميع.
ولعل تلك الحادثة كانت أول صراع له مع البوليس السياسى، فبعد تلك القصيدة لاحقه البوليس، وقاموا بالذهاب إلى منزله وتم تفتيشه بعنف، وتم تدمير أثاثه بحثاً عن تلك القصيدة، ولكنهم لم يجدوا أى شىء لأنه نظّم القصيدة وقتها ولم يكتبها، وكان من حسن الحظ أنه لم يكن بالمنزل.
ويقول البابا شنودة عن تلك الفترة إنه سرعان ما ترك السياسة لأنه شعر أنها لا تناسبه، وقد تخرج فى جامعة الملك فؤاد الأول بتقدير ممتاز عام 1947، وهو نفس العام الذى تخرج فيه من الكلية الإكليريكية.
وبعد تخرج نظير جيد فى كلية الآداب التحق بالكلية الحربية عام 1947، واستمر بها لمدة عام، وكان لها أثر بالغ فى حياة البابا شنودة؛ فقد تعلم الانضباط، ويقول عن تلك الفترة إنه تعلم الانضباط وكيفية المشى بشكل صحيح، والاستيقاظ الساعة السادسة صباحاً، وقد كان لهذا دور كبير فى زيادة قدرته على تحمل مشقة الرهبنة والاتجاه للرهبنة.
وارتبط البابا الراحل بـ«أبوالإصلاح الكنسى»، الذى عُرف باسم حبيب جرجس، وتتلمذ على يديه، حيث كان خادماً مؤمناً وتلميذاً للمعلم حبيب جرجس، وقد آمنا أن الإصلاح الكنسى لن يتم إلا من خلال إصلاح التعليم الكنسى والمعاهد الدينية، حتى تم إنشاء مدارس الأحد -وهى للنشء- لتعليم الصحيح المسيحى لأطفال المسيحيين، وكان يتردد على مدارس الأحد مع مجموعة من الإكليريكيين لتعليم الأطفال والشباب أملاً فى زيادة الإصلاح الكنسى.
وفى أبريل عام 1947 أسس «نظير»، مع مجموعة من الإكليريكيين، مجلة مدارس الأحد، وهنا بدأ البابا عمله كصحفى مقالات، وكان يتقلد منصب مدير تحرير المجلة، وكان شعار المجلة صورة السيد المسيح وهو يحمل سياطاً وهى الأيقونة الشهيرة عندما دخل الهيكل وطرد الباعة الذين دنسوه، قائلاً: «بيتى هذا للصلاة»، فى إشارة إلى الاتجاه للإصلاح الكنسى، وقد استغل منصبه فى الدفاع عن قضايا الأقباط.
وقد تولى رئاسة تحرير مجلة مدارس الأحد، وانتهج الإصلاح الكنسى؛ فهاجم طريقة رسامة الكهنة والأساقفة دون الاهتمام لمؤهلاتهم العلمية وكفاءتهم لهذا المنصب، كما تحدث عن أهمية تعديل لائحة انتخاب البطريرك لتتفق مع التقاليد الكنسية، كما قام من خلال مقالاته بالهجوم الشديد على المجلس الملى المسيطر على شئون الكنيسة، كما تناول فى مقالاته الأحداث الطائفية، وطالب بتفعيل دور القانون ومحاسبة المتقاعسين أياً كانت وظائفهم، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة الأحد فى الفترة ما بين نوفمبر 1949 ومارس 1953، ثم قدم استقالته والتحق بدير العذراء السريان، وسلك حياة التوحد والرهبنة، تحت اسم الراهب أنطونيوس السريانى.
ارتبط بحزب الوفد ودافع عن حقوق الأقباط بمجلة «مدارس الأحد»
التعليقات