استمرت رحلة الإمام الشافعى فى طلب العلم، حتى وصلت إلى آخر محطاتها فى مصر والتى وطئتها قدمه عام 200 هجرية، وهى الفترة التى تعد من أهم الفترات العلمية والفقهية فى حياة ورحلة الإمام، وقدم فى مصر تجربة فريدة فى التجديد الدينى ومراعاة ظروف الزمان والمكان.
حرص الإمام الشافعى عند قدومه إلى مصر أن يقتدى بسنة النبى عند ذهابه إلى المدينة، وقال: «إنى أريد أن أنزل على أخوالى الأزد»، فنزل عليهم. وقد ذكر الإمام أحمد أن الشافعى قصد من نزوله على أخواله متابعةَ السنةِ فيما فعل النبى حين قدم المدينة من النزول على أخواله، فقد نزل النبى حين قدم المدينة على بنى النجار، وهم أخوال عبدالمطلب.
مثّلت مصر للإمام الشافعى مرحلة مهمة فى حياته الفقهية، حيث شهدت تلك الفترة تجديد الفكر الدينى الخاص بالإمام، فأعاد النظر فى بعض الكتب مثل كتاب «الرسالة»، وألَّف فى مصر كتابه الشهير المعروف بكتاب «الأم»، وهو عبارة عن كتاب كبير يحتوى على العديد من المؤلفات.
وبدأت شرارة التجديد عندما رأى الإمام الشافعى من أصحاب مذهب الإمام مالك التعصب الشديد للإمام مالك حيث كانوا يقومون بتقديمه وتقديم كتابه على الأحاديث التى جاء بها النبى، فلما رأى الإمام الشافعى هذا الفعل منهم قام بتأليف كتاب للرد على مذهبهم المالكى، نظراً لكون الإمام مالك من البشر والبشر وارد منهم وقوع الخطأ، وفى هذا الصدد رأى أنه من الوارد أن يُخطِّئ العلماء بعضهم بعضاً، وأن هذا لا يقلل من شأنهم.
حينما أقدم الإمام الشافعى على تأليف كتاب للرد على فقه الإمام مالك، ثار المصريون المالكيون بسبب تأليفه لهذا الكتاب، وقاموا بمحاربته بالإضافة إلى قيام علماء المالكية بالدعاء عليه.
وانتشر ذكر الشافعى فى مصر إلى درجة كبيرة حتى أصبح الناس يأتون له من كل البلاد، وازدحمت حلقة الشافعى ازدحاماً لا عهد لأهل مصر به من قبل، فكان المكان يضيق بطلبة الشافعى، وكان يجلس بين يديه الشيوخ الكبار فضلاً عن طلبة العلم؛ لأن الله تعالى قد آتاه حجة قوية وعذوبة لسان وفصاحة وبياناً ومنطقاً وبلاغةً وغيرها من الحجج.
توفى الشافعى فى عمر 54 عاماً، فكانت الوفاة ليلة الجمعة بعد العشاء، فى آخر يوم من شهر رجب، ودفن يوم الجمعة، وقال محمد بن يحيى المزنى: دخلت على الشافعى فى مرضه الشديد الذى مات فيه، فقلت: يا أبا عبدالله، كيف أصبحتَ؟ فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنا راحلاً، ولإخوانى مفارقاً، ولسوء عملى ملاقياً، وعلى الله وارداً ما أدرى روحى تصير إلى جنةٍ فأهنّيها، أو إلى نارٍ فأعزّيها، ثم بكى وقال: «ولَمَّا قسَا قلبى وضاقَت مذاهبى.. جعلتُ رجائى دون عفوِك سُلَّمَا.. تعاظَمَنى ذنبى فلما قرنتُه.. بعفوك ربى كان عفوُك أعظمَا».
هلالي: أدرك أن الفتوى تتغير بتغير البيئة والزمن وغيّر مذهبه بعد نزوله مصر وانتقل من فقه إلى فقه
وقال الدكتور سعد الدين هلالى، رئيس قسم الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن الإمام الشافعى -رحمة الله عليه- كان من أئمة التجديد، وأدرك أن الفتوى تتغير بتغير الزمان وتغير المكان، فالفتوى ليست حكماً ثابتاً، وإنما لها ظروفها وسياقاتها وأوضاعها الملائمة، والإمام الشافعى قد غيّر مذهبه بعد نزوله مصر وانتقل من فقه إلى فقه، وهذا هو قمة التجديد والتدبر والأخذ بظروف الزمان والمكان لكل مجتمع، فلماذا نحرم أنفسنا من ذلك ما دام أن الشرع لم يمنع؟!
ولفت أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر إلى أن المذهب الشافعى انفرد بجواز صلاة الفرض خلف المتنفل، وتابع: «والمتنفل هو الذى يصلى نافلة وليست فرضاً.. المذهب الشافعى أجاز الصلاة خلفه»، كما أنه المذهب الوحيد الذى أجاز دخول مكة دون إحرام، وتابع: «رغم أن جمهور العلماء قالوا بضرورة إحرام أى شخص عند الدخول لمكة باستثناء المقيمين فيها، وأداء فريضة العمرة»، مشدداً على أن هذه الفتوى من أجمل فتاوى المذهب الشافعى التى تعمل على حل بعض المشكلات بدخول مكة دون إحرام.
وأضاف: «هذه اجتهادات، والحكمة هنا أن باب الاجتهاد مفتوح ويجب أن يظل مفتوحاً ومتنوعاً، ومن عظمة الشعب المصرى أنه يأخذ الفتاوى من كافة المذاهب الفقهية، رغم أن هناك بعض مَن يريدون أن يحصرونا فى نطاق الفتوى الواحدة ويوجهوا الناس إليها».
الجندي: لم يتمسك برأيه ولم يتهم الآخرين بالكفر.. وكان منفتحاً وصاحب حجة ورأي
قال الشيخ خالد الجندى إن الفقهاء الذين ورثنا عنهم الفقه كانوا يغيرون آراءهم وهم على قيد الحياة، وكانوا يراجعون مواقفهم وهم على قيد الحياة، متابعاً: «كانوا يتراجعون عن الكثير من الفتاوى التى قالوها وهم على قيد الحياة، ولم يقل أحد من الناس هذا عيب أو هذا لا يجوز».
وأضاف «الجندى» فى تصريحات له: «كان الفقهاء لديهم القدرة والشجاعة والعلم على تغيير المواقف والآراء والأفكار الفقهية بمنتهى البساطة».
وتابع الشيخ خالد الجندى: «هناك 200 مسألة على القديم والجديد من فقه الإمام.. وهذا أشهر وأوسع ما كتب فى الآراء التى غيّر فيها الإمام آراءه.. أكثر من 200 مسألة تراجع عنها الإمام الشافعى، ولم يتمسك برأيه ولم يتهم الآخرين بالكفر وكان منفتحاً وصاحب حُجة ورأى».
وأوضح أن الفتوى تتغير بالمكان أيضاً مستشهداً بالإمام محمد بن إدريس الشافعى الذى كان له فقه فى بغداد، وعندما جاء لمصر غيّر ثلثى مذهبه، مفسراً ذلك بأن أوضاع الناس فى بغداد تختلف عن أوضاع الناس فى مصر، مشيراً إلى أن من المتغيرات التى تتبدل من أجلها الفتوى الزمان والمكان والظرف والشخص، موضحاً أن الزمن من أهم تلك المتغيرات مستشهداً بأن الذين أنفقوا وقاتلوا للإسلام قبل فتح مكة لهم أجر أعلى من الذين قاتلوا وأنفقوا بعد الفتح، وبهذا يعتبر أن الزمن غيّر الفتوى.
التعليقات